Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

يحار المرء من أين يبدأ. ما يجري في لبنان على المستوى الدعائي والإعلامي لم تعد تصلح تسميته إعلاماً وإعلاماً مضادّاً، أو رأياً ورأياً آخراً في 'واحة'" الحريّة على ضفاف شرقي المتوسط. كيف تصف إعلاماً، مضمونه كذب وافتراء وتهديد، وشكله فجور ووقاحة ووعيد؟"

محمد حسين محيي الدين

إعلام 'المناشير'""

"

يحار المرء من أين يبدأ. ما يجري في لبنان على المستوى الدعائي والإعلامي لم تعد تصلح تسميته إعلاماً وإعلاماً مضادّاً، أو رأياً ورأياً آخراً في "واحة" الحريّة على ضفاف شرقي المتوسط. كيف تصف إعلاماً، مضمونه كذب وافتراء وتهديد، وشكله فجور ووقاحة ووعيد؟ لن نستعمل الاقتباسات الممجوجة لمسؤول الدعاية النازية جوزف غوبلز لوصفها (وأغلبها ركيك ومُختلق، وهذا بحثٌ آخر) لأن الحملات الإعلامية التي حصلت وتحصل أسفل من أن تكون دعاية سياسية، أو كلاماً على صفحات صفراء حتى. أقربُ وصفٍ يتبادر إلى الأذهان هو المنشور الذي ترميه الطائرات في خطوط ومناطق العدو أثناء الحروب. بضع كلمات رديئة الإنشاء وفاقعة في معانيها، وتحمل في طيّاتها الويل والثبور وعظائم الأمور. الوصف الأمثل هو "إعلام المناشير".

***

لسنا من أصحاب الذاكرة الضعيفة، ولسنا "كائنات سياسية يومية"، أي لسنا ممّن يتابع حدث اليوم وهاشتاغ الساعة ونجود ونعلّق عليه، ثم ننساه في اليوم التالي ونعلّق على الحدث الذي بعده. في ما يلي، مجموعة من الأحداث التي غطتها وسائل الاعلام المرئي والمسموع وصحف ووسائل التواصل الاجتماعي. تحذير: المشاهدات تتضمّن منسوباً عالياً من العنصرية والمذهبية والطائفية، فعذراً على رداءة الصورة من المصدر.

لنعد عدّة أشهر الى الوراء مع بدء تفشّي جائحة الكورونا. هل نسيتم كيف تمّ تصوير كلّ قادمٍ من إيران على أنّه وباء متنقل؟ هل نسيتم صورة الباص في أحد مناطق الساحل الشمالية وفيه بعض السيّدات المحجّبات، موسومة بعبارة "نساء عائدات من ايران في جونية"؟ لسخرية القدر، تبيّن لاحقاً أن تفشّي الكورونا في لبنان كان سببه قادمون وقادمات من رحلات تسوّق وحفلات وأعراس في أوروبا. الكمّ الهائل من المغالطات والافتراضات مرعب: أوّلاً تصوير كل إنسانة محجّبة أنها كانت في إيران حديثاً. ثانياً، إن صحّ الافتراض الأوّل، فتلك السيّدة مصابة بالكورونا حتماً. أنت محجّبة يعني أنت مريضة كورونا. حلِّلْ وناقش.

***

انفجرت نيترات الأمونيا في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، وتفجّر معها "مزراب" جديد من مزاريب الباطل والكذب. قصف إسرائيلي استهدف مخزن سلاح للمقاومة في المرفأ ومقاطع فيديو لأناس سمعوا صفير محركات الطائرات وصواريخها الآتية نحو المرفأ. لقد عايشنا فترة الانفجارات شبه - الشهرية في لبنان منذ الـ2005. لم يصدر عن فريق السيادة هذا كلمة واحدة تتهم إسرائيل بالمسؤولية عن أي اغتيال. كل اغتيالات لبنان لم تقف خلفها إسرائيل، وإسرائيل فجّرت المرفأ. حلِّل وناقش.

***

زبدة الكلام قالتها سيّدة مفجوعة في محضر الدمار والدم. "يروحوا يفجّروا بالجنوب"، افتراض أول أن التفجير سببه مخزن سلاح، لا نيترات ولا من يحزنون. افتراض ثاني، يرقى إلى مستوى الاعتقاد والايمان، أنّ الجنوب حقل تجارب للمتفجرات ومختبر للقتل ومسرح لعروض البارود والنار. كأنّي بتلك السيدة المسكينة تقول: "الموت والقهر في هذا الشارع من بيروت لم يكن جزءاً من الاتفاق. في لبناننا وُعدنا بأنهارٍ من لبن وعسل، الموت والدمار في الجنوب". وتزيد: "لا بأس إن مات الناس في الجنوب والبقاع أيضاً والشمال" هول المأساة أنساها أن تقول ذلك ربما. كادت أن تقول أنهم ينجبون كثيراً ولا يتأثرون بالموت. حدث انفجار في بيروت - يبدو عرضياً حتى الساعة - فلينفجر الجنوب بمن فيه. حلّل وناقش.

***

انتشرت صورة لسيّدات محجّبات في مطار بيروت يقمن بمساعدة المسافرين في شؤون صحية لها علاقة بإجراءات الكورونا. وقد صودف أن هناك شيء اسمه رزنامة هجرية، وفيها شهر اسمه محرم، وأنّ الشيعة خلال هذا الشهر يلبسون السواد حداداً على الامام الحسين. سيدات بحجاب ولباس أسود... وأين؟ في مطار بيروت. يا للهول. يا خجلتنا أمام الزوار الأجانب الذين سيظنّون أن الطائرة حطّت في طهران بدل بيروت. فضْح النفاق لدى هؤلاء يسير جدّاً. ألم يزعجهم شكل السيدات في العباءة الخليجية السوداء على مدار العام في مطارات دولة الإمارات العربية المتحدة؟

منذ أيّام، وفي مسلسل التخبّط المستمرّ لجيش الاحتلال الإسرائيلي على الحدود الجنوبية، شهدنا جولة من رمي القنابل المضيئة فوق قرى الجنوب وما صاحبها من أصوات انفجارات. قناة الـMTV، في نشرتها المسائية شبّهت ما جرى بصوملة لبنان. نعم الصوملة نسبة للصومال، وأن ما جرى هو مسرحية ابتزاز على طاولة المفاوضات بين القوى الإقليمية والدولية، كما يفعل القراصنة الصوماليون قرب شواطئ القرن الإفريقي. كل الحب والتحية لفقراء الصومال الأعزاء، ولكن لماذا تشبّه سيدة لبنانية في مبنى في النقّاش يبعد عشرات الكيلومترات عن عيترون، مواطنين لبنانيين مثلها بأشقائنا في الصومال؟ لنكتفي بطرح السؤال فقط. ولنترك للقارئ ان يفكّ الشيفرة.

***

الطائرات الحربية ترمي المناشير لتأليب الرأي العام المضاد، وتعتقد أنّها بذلك تدمّر معنويات الخصم، وتدفعه للتراجع والاستسلام. المناشير الإعلامية ستستمرّ، ولن تخفت. مزيج من التجاهل والسخرية والتقريع قد يفيد في مواجهتها. لن نجد ترياقاً للحقد والجهل والعنصرية في ليلة وضحاها نوزّعه على إخوتنا في الوطن، لكنّنا ببساطة يمكننا إفشال الهدف الرئيس من انهمار المناشير فوق رؤوسنا، ألا وهو تثبيط العزائم والهمم. ليسأل إعلامُ "المناشير" هذا الطائرات الإسرائيلية عن مناشير حرب تمّوز كيف تلاعب بها الصبية في الشوارع.

"